المكتب التربوي

قصة الشهيد #صالح_ياسين

(ثائِرٌ من بلدي)

“الوطن” كلمةٌ واحدة تحملُ معانٍ عديدة ، فعندما يحكمُ هذا الوطن حاكمٌ طاغية ، فليس من المهمِّ أينَ ومتى سيموتُ الشعب ، بقدرِ ما يُهِمُّ أن يبقى الوطنُ لِشعبِه.

يستيقِظُ ويرى ابنتَهُ تشُدُّ على عُنُقِهِ باكيةً خائِفةً من شِدَّةِ هولِ أصوات القذائف المتتالية ، ليمسح على رأسِها محاولاً تهدئَتَها ، ويرى ابنه مالك الآخر مُختَبِئاً تحتَ الطاولةِ مذعوراً ، وامرأتُهُ التي تبكي أثناءَ تحضيرها الحقائب للنُّزوحِ إلى مدينةٍ مجاورة ، أبعدَ ابنتَهُ قليلاً ليقتربَ من النَّافذة ويسمع صوتَ هؤلاءِ الثُّوار الذين يهتفونَ هتافاتٍ سلميَّة مُطالبينَ بالحُريَّة ، بمُجرَّدِ رؤيَتِهِ لهذا التجمُّع فقد مرّت بذاكرةِ صالح لحظةُ اعتقالِ أخيهِ الأصغر فارس منذُ عشرِ سنوات ، نعم لا تزالُ صورةُ والديهِ عالِقَةً في ذهنِهِ ، حيثُ أنَّ والديهِ قد وافتهُم المنيَّةُ من شدَّةِ الحسرةِ والحُزنِ على ولدِهِما الأصغر فارس ، ليقولَ وعيناهُ غارقتانِ بالدُّموع : لقد حانَ الوقتُ يا أخي للأخذِ بثأرك ، هذه ثورةُ حقٍّ وبإذنِ اللهِ ستنتصر ، حملَ الأمتِعةَ ويطلُبَ من زوجتِهِ اللّحاقَ بِهِ هي والأولاد للرحيل.
زوجتُهُ وعيناها كالشلالِ تفيضانِ بالدموع : أتوسَّلُ إليكَ يا صالح هؤلاء البشر لا يخافون الله ، أخشى عليكَ من أذيَّتهم وشرِّهِمْ أرجوك!!!
صالح بنبرةٍ غاضبة خالطها الحزن : بشر! أقُلْتِ بشراً!!؟ ، هؤلاء كلمةُ بشرٍ كثيرةٌ عليهم ، لا تُحاولي لقد عقدتُ العزمَ على قتلِ ذلك الضابط المُجرم الذي أودى بحياةِ أخي ، وإنِّي والله لآخِذٌ بثأرِهِ ، صمتت المرأةُ وهي ما تزالُ تبكي وداخلها مشاعرٌ مختلطة من الحزن والخوف على زوجها من هؤلاء الطُّغاةِ لكنَّها تعلمُ أنَّ زوجَها لن يسمعَ لها مهما توسَّلَتْ إليه هي وأولادها المذعورين من مصيرهم المجهول.
يركُنُ سيارَتَهُ أمامَ فرعٍ من فروعِ الشرطة المُختصَّةِ باعتقالِ المواطنين بحقٍّ أو بغيرِ حقٍّ للأسف!! ، تحاوِلُ زوجتهُ والأولاد الإمساكَ بيدِهِ لمنعِهِ من الدُّخولِ لكن عبثاً ، ليدفعَهُمْ ويتَّجِهَ بطريقِهِ إلى داخلِ الفرع ، لقد اضطرَّ إلى الكذبِ وقالَ للحُرَّاسِ أنَّهُ يُريدُ مُقابَلَةَ الضابطِ فُلان لتقديمِ تقريرٍ عن شخصٍ ما !!! ، نعم ، هذهِ دولتُهُ ، إذا أراد أحدٌ الدُّخولَ إلى فرعٍ من هذه الفروع ، فيجبُ أن يكونَ هدفهُ الأوَّل هو أذيَّةُ النَّاس ، بمُجرَّدِ سماعِ الحُرَّاسِ لطلبِهِ أدخلوهُ بالفور ، مشى بخطواتٍ بطيئة لإبعادِ الشُّكوكِ عنه اتجاهَ مكتبٍ في آخرِ ممرِّ الطابقِ الأول ، وخلال سيرِهِ سمِعَ أصواتاً تمنَّى أن يموتَ ولا يسمعها ، أصواتُ توسُّلاتِ النِّساءِ والرجالِ ، صوتُ عُصِيِّ الضربِ التي يرافِقُها صوتُ بكاءِ الأطفال!!! ، تنهمِرُ الدُّموعُ من عينيهِ وهو يسيرُ مُثقلاً ، حتّى وصلَ إلى مكتبِ غريمِهِ وغريمِ كُلِّ مظلوم ، ليطرُقَ البابَ بهدوء ، ويدخُلَ أيضاً بتريُّث كي لا يُلفِتَ الأنظار ويُثيرَ الشُّكوك ، دخلَ ليرى طاولةً سوداء تتوسَّطُ المكتب ، وخلفَها كُرسي متحرك يجلسُ عليه ذلك الضابط ضخمُ البُنية ، أسمرُ البشرة ، ورأسهُ خالٍ من الشعر ، وفي منتصفِ الحائط صورةٌ لذلكَ الحاكم السَّفاح .
الضابطُ وعيناهُ المريبتانِ تُحدِّقانِ بصالِح :
حللتَ أهلاً ووطأت سهلاً يا صالح ، لم أركَ منذُ عشرِ سنواتٍ أتذكر؟
صالح بنبرةٍ يخالطها بعض الغضب : بالتأكيدِ أذكُر!
الضابط : كنت أعلمُ أنَّكَ ستتعاونُ معنا ، أجلسْ وأعطني التقريرَ الذي أحضرتَه ، صمت صالح محاولاً كتمانَ غضبِهِ وغيظِهِ ومدَّ يدَهُ إلى سُترتِهِ مُدَّعِياً إخراجَ التقرير ، وما ان انشغلَ الضابطُ ببغضِ الأوراق ، ليسحبَ صالح السِّلاحَ من سُترتِهِ و يُطلِقَ ثلاثَ طلقاتٍ برأسِ ذلك الضابط ، وتتشكَّلُ بحيرةٌ من الدٍّماء تحتَ هذا المكتب!!! ، بدأ صالح يبكي بحرقةِ قلبٍ وهو يقول : إنَّهُ الثّأرُ يا فارس إنِّهُ الثّأر !
حملَ صورةَ ذلك الطاغية وقام بشقِّها إلى قطعٍ صغيرة وداسَ عليها ورماها فوقَ الضابط المستلقي الغارق بالدماء ، أدرك أنَّه عليه الهرب قبل ان يدخلَ أحدُ الحُرّاسِ المكتب ، فقفزَ من شُرفَةِ المكتب إلى الفناء الخارجيّ في الفرع ، وتسلَّقَ الحائط وابتعد قليلاً عن الفرع ليتأمَّلَ السّماءَ بدموعٍ خالطها شعورُ الفرح ، فلأول مرَّة يشعرُ ببرودٍ في دمه مُذ ان اعتُقِلَ أخاهُ فارس ووافتهُ المنيَّةُ على يدِ هؤلاءِ المجرمين ، لكن أتى صوتٌ طغى على هذه الفرحة ، صوتُ طلقاتِ نارٍ متتالية، ليركُضَ ويُطِلَّ برأسِهِ ويُصعقَ من هولِ المنظر !!!

يجدُ زوجتَهُ منى ، ابنه مالك ، ابنته عائشة،جُثثاً تحتَها بركة من الدِّماء ، بكى ، وبكى بصوتٍ يكادُ الحجرُ يلينُ عندَ سماعه ، اسودَّتِ الدُّنيا في عينيه وتسارعت نبضاتُ قلبِهِ حتّى كادَ هذا القلبُ يخرجُ من صدرهِ ، ماتوا من كانوا أملَهُ الوحيد في هذه الحياة ، ولسوءِ الحظ وقعت أعيُنُ الحُرَّاسِ عليه ، لم يكن لديه قُوَّةٌ للتحرُّك والهرب فنطقَ الشهادةَ قبلَ وصولهم إليه ، لينقضُّوا عليهِ مثل الوحوشِ الضَّارية في الغابات ويقتلونه بأسلوبٍ شنيع !!!
أيُّ نوعٍ من البشرِ هؤلاء ؟!
من يتلذّذونَ برؤيةِ أمٍّ تُكفِّنُ ابنتها التي لم تُناهزْ السابعةَ من عمرها !!
الذين يفرحونَ بسماعِ صوتِ التوسُّلاتِ لتخفيف العذاب ، أيُّ بشرٍ أنتم ؟! لا بارك الله فيكم ولا عفا عنكم.
ختاماً: كما قال الله في كتابه الكريم من بعد بسم اللهِ الرحمن الرحيم:
{ولاتحسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزقون } صدق الله العظيم.
واليوم بفضلِ الله انتصرت الثَّورة ، ثورة الحقٍّ لنقول :

هذي بلادِي حُطِّمَتْ أصفادُها

عيشِ بلادِي حُرَّةً وتزعَّمِ.

كتابة : رقية الطبل .